السيدة زينب (عليها السلام) حضارة خالدة
عندما يتأمل الرائي البحر.. يتيه بين أسراره وعجائبه، وإذا ما ارتمى بين أحضانه يغرق، دون أن يحلّ أيّ لغز فيه! فتراه يضطرب غضباً تارة.. وحنيناً تارة أخرى، وعلى بساط الأمل يبقى متربّعاً عله يفيق من سكرة سحر الجمال (ثمَّ يَهيجُ فتراهُ مُصْفراً ثمَّ يَكُون حُطاماً) فيهشّ وجهه ويكمد، ليخلع على ذاته من مصون الأسرار ما أكنته الضمائر.
لذا وذاك عرجتُ بروحي إلى شواطئ البحر.. ساكناً بعد حراك، وصامتاً بعد نطق لأتعض بهدوّه، وخفوت أطرافه وسكونه.. فلقيته (مَوْجٌ مِنْ فوْقِهِ مَوْج)، والملائك تطوف من حوله، وقبل أن أقدح الزناد لأطلق من فوهة فمي السؤال عن ماهية هذه الأمواج.. خرقت مسامعي ألحان الملائكة وهي ترتل نشيدها:
لــــــــي خـــــــمسة أطـفي بـهم حـــــرّ الجــــــــحيم الـــحاطمة
المصطــــــفى والــــمرتـــــضى وابنـــــيــــهما والـــفـاطــــــمة
فانسابت دموعي لترقص على خدّي طرباً بذكر آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، وراحت الأعاصير التي زحفت بعسكرها على فؤادي تذوب كالملح في الماء.. حيث انصهر الظلام، وتوهّجت بصيرتي بنور اضطمّت عليه جوانحي يسمو بالهداية.. بعد أن برزت هويّة البحر فعلمت أنه محمداً وآله (صلى الله عليه وآله). ثم هويت لأجلس كالعبد بين يدي هذا البحر العظيم الذي لا يدرك قعره، ورحت أنعطف عليه لأغترف منه ما يفيض به عليّ من إشراق وتوقد.. فالتحمت كلتا يديّ وصرن تحت بضعة من جسمه البرّاق، فرفعتها لأغسل بها عوالق الهموم، وأشفي جراحاتي التي لم تندمل بعد.. وإذا بقلبي قد أخذ ينعصر، وطافت سحب الحزن عليه فرحت أستعبر منقباً عن قداستها، وما هي إلاّ هنيهة وإذا بصوت شجي:
هـي صفوة الهادي الشفيع وبضعة مـــــن حـــــيدر وســـلالة الزهراء
فارتعدت مفاصلي، وخشع شعري وبشري، ولحظت أنفاسي كأنها تنخلع في حالة نزع.. من الخبر الملتهب الذي أجّج صراخاتي الصامتة على شفاهي الذابلة من فم القروح، فصرت أتمرغ بين السائل والمجيب في ذاتي المعذبة.. وفرجت بين أصابعي لأضع ما اغرفته على صخرة جاورت أخواتها إلى جانبي فاضطربن اضطراباً شديداً.. فأخذتني الرعدة، وقد اندلع لسان الألم مستفهماً؟!! من هذه البضعة التي أثارت عطف الصخور؟!! وما اسمها؟ وما شأن ارتباطها بالسلسلة الذهبيّة الفاطمية؟.. وإذا الصوت بجسمه يعود بشجوه:
هـي زيـنب الكبرى عقيلة حيدر بثـــــباته فــــــي وجه كلّ بلاء
فعلمت حينها أنّ اسمها زينب وهي سبطة النبي (صلى الله عليه وآله) وبضعته من بضعته، ونور قد انبثق من علي وفاطمة فكانت هي فألبسه الله هيبته، وعلى مائدة التاريخ جلست لأعلم أنّ الله من فاض عليها قداسة ذا الاسم، وبانت جوانب حياتها مشرقة بعد أن رضعت لبان الوحي، وخصّت بتلكم التربية الروحانيّة، ونشأت أسمى نشأة قدسية، فتجلببت جلابيب الجلال والعظمة وتزاحمت السطور المترجمة لها في خزانة التاريخ وهي متخمة بحقائق عملاقة.. متلهفة على حسراتها التي قضت بها، وهي من ألمع نجوم الإنسانية في رسالة الإصلاح والحرية التي حمل لوائها قمر زان سماء العقيدة ببهائه وجماله
وكلما غربت شمس للرسالة أو أفل فيها نجم نراها تزداد تألقاً، وتروح لتزوي الجروح والمحن في جيوب الآلام لتكمل المسيرة التي اعتنقت مبادئها منذ الولادة، فلأي جانب نقصد من حياتها العظيمة يبهرنا سحر إثماره وغزارته.. فعلمها بحر لا ينفد وصبرها موج لا يرتدْ وفي كلّ فجّ لها سيل عارم ومنهلها فيهنّ العبادة.. حين الولادة وإلى الشهادة.. فلها بالله قربى.. كأني بها لا تذوق النوم إلاّ غرارا أو مضمضة متقلبة متضرّعة بين يديه ترتعد مفاصلها هيبة وإجلالاً، وتناجي بلسان أبيها ولئالي الدموع تنهمر من كريمتيها على خزانة أسرار العصمة حتى زانت بتهجّدها أركان المحراب آمرة ناهية، ذائبة في اغتنام الفرصة ورفع الغصّة مؤكدة لقول أبيها (ألا ومن أكل الحقّ فإلى الجنة ومن أكل الباطل فإلى النار)، خافضة بالعلم جناحها ملينة للجانب باسطة للوجه بوجه كلّ يتيم مآسية بينهم في اللحظة والنظرة محذرة للأمة من مبلبل أجسام الملوك وسالب نفوس الجبابرة، لينقلبوا عن الدنيا بالزّاد المبلغ والمتجر الرابح لذا قيل فيها:
فكــــــانت كـــــالأئمة في هداها وإنـــــقاذ الأنـــــام من الضلال
وهكذا تنشر الفضيلة بأخلاقها النابعة من حديقة الكمال التي غرسها الله ثمّ ليشطرها إلى نصفين في عليّ وفاطمة وتعود لتجتمع مكللة بالزهور في تاج الكرامة والوقار تتوّج به زينب العقيلة من آل هاشم:
وكـــم قال ابن عــباس فخوراً: عقــــــيلتنا ويـــــــا نعم العقيلة
لتكون البدر بلا خسوف والشمس دون كسف، ولنعم ما قيل فيها:
بنفسي من حوت أسمى المزايا ومن للـــــمكرمات غدت خليله
ومــــن يسمو الثناء بها ويَحلو وأجــــــدر بالنّعوت المستطيله
فإن كــــــثرت مدائحها وفاضت تُعـــــدّ بشــــأنها السامي قليله
وبعد فقد صارت بأبي هي وأمي غرض الأسقام ورهينة الأيام ورمية المصائب، وانثالت عليها المحن الواحدة تلو الأخرى، فقدُ جدّها ثم أبيها بعد أمها وسمّ أخيها حتى ينتهي بها العزاء إلى كربلاء لتمنع العذب وتحلس الخوف مع فتية نحتوا في الصّخور نصر الجيد ولولاهم ما قام عمود الدين ولا أخضر عود الإيمان، ولتتحمّل ما عجزت عنه جبال رضوى:
فأبـــــــدت بعد يوم الطفّ حزماً ومــــا مــن حرّة أبـــــت مثيله
وحلمــــاً لا يقاس بثقل رضوى محال بـأن يرى رضوى عديله
لقد وثــــق الحســـين بها لكيما تقوم بحــــمل أعـــــباء ثقـــيله
ثمّ راحت لتكمل مسيرة الجهاد بخطبها الرنانة في مجالس الظالمين:
وكان جـــــهادها بالقول أمضى من البيض الصــوارم والنضال
فليس لها من نظير بصبرها على مضض الألم، وإليها تشخص أبصار الغوّاصين في خزائن العظمة والمتاحف والإنسانية، وفي بحر صبرها السلوى لكلّ متأوّه وذات أنين:
يـــــا قلــــــب زينب ما لاقيت من محن فيـــــك الـــرزايا وكلّ الصّبر قـد جمعا
لو كان ما فيــــــك من صبر ومن محن فـي قلب أقوى جبال الأرض لانصدعا
يكفـــــيك صبراً قـــــلوب الناس كــلّهم تـــــــفطّرت للذي لاقـــــيته جــــــزعــاً
وقد أكملت بناء ثورة أخيها الحسين (عليه السلام) إلى القمة لتبقى شاهقة تناطح السحاب، وتتكسّر عند أعتابها أحلام الطغاة، وهي النجم لم يأفل بتجلببها الصبر وتجلدها للعبادة.. لنحيى نحن فنكون بدراً يجدّد أرضاً غرّسوها جثثاً وسقوها بدم.. يفوح عطراً بالولاء.. وهو يصدح نشيداً على مائدة الحروف.. الناطقة من سكون صمت كلمة حسين، مستلهمين النهج الزينبي بنصّه المعبّر: إن في إبراز المظلومية حقيقة الانتصار.
وهكذا براكين الضمائر تغلي.. لنمشي على الجروح.. لتحال منا أفواج العبرات.. دمع ينزف.. وصوت يهتف ملتحماً بصوت العقيلة في مجلس يزيد: (فوالله لا تمحو ذكرنا).. لنقول:
نحن أبكينا الدموع.. ما بكينا.. وابتسمنا.. رغم أنف الظالمين
وانتصرنا.. في السجون.. تحت السياط.. بعد ما نحن صبرنا
وانتصرنا.. بالحياة.. حيثما خط العلم.. نحن أنصار الحسين
السيدة زينب أحيت اسم كربلاء وأبقت آثارها
لقد شرف الله تعالى فاطر الأرض والسماوات، ارض كربلاء على باقي الأرضيين، وذلك لان في كربلاء حيي الدين، وقام على قدم وساق، واستطاع أن يواصل مسيرته التقدمية، لينفذ في أعماق القلوب وينورها، وفي غور التاريخ والأجيال ويسعدها.
ولذلك لما افتخرت ارض الكعبة أم القرى وتباهت على سائر الأرضيين، لأنها مركز بيت الله، ومحل أمان عباد الله، خوطبت من عند ذي الجلال والإكرام: (أن اسكتي ولا تفتخري ولا تتباهي، فان هناك أرضاً اشرف منك وهي ارض كربلاء).
والسر في كون كربلاء المقدسة اشرف من الكعبة وأفضل منها واضح، لأنه لولا واقعة كربلاء، واستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) فيها، وإراقة دمه الشريف ودماء أهل بيته وأصحابه على أرضها، ومواراة جثمانه الطاهر والشهداء السعداء معه في تربتها، وما أصابهم من ظلم وجور، وهتك وفتك فيها، مما كشف عن نفاق بني أمية وكفرهم، وعدائهم للإسلام والقرآن، وحقدهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، لما بقي هناك على الأرض موحد يعرف الله ويعبده، حتى يتوجه في عبادته إلى الكعبة ويصلي إليها.
وعليه: فان ارض كربلاء لما صارت مركزاً لإحياء الدين، وقاعدة لانطلاقه إلى القلوب، ومقراً لتحركه نحو الأجيال والتاريخ اختصت بميزات تالية:
1- إنها تأهلت لان تحتضن ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيد شباب أهل الجنة، الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته الطاهرين، وأصحابه المنتجين.
2- إنها أصبحت مقراً لارتفاع الدرجات، ومحلاً لارتقاء المقامات، حتى انه لم يكن هناك نبي ولا وصي نبي، إلا وأمر بزيارة كربلاء ليكتسب عبرها جاهاً عند الله تعالى وقرباً إليه، ولم يستثن من ذلك حتى جده خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) حيث زار كربلاء ليلة المعراج، وحتى أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث زارها في طريقه إلى صفين.
3- إنها حظيت بالسعادة وصارت قطعة من ارض الجنة، وبذلك صارت مأمناً لمن دفن فيها من محبي محمد وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)، حيث يحشرون منها إلى الجنة بغير حساب.
4- إنها أصبحت مثوىً للائمة المعصومين (عليهم السلام) حيث كان يفرش في القبر أولاً وقبل الدفن شيء من تراب كربلاء.
5- إنها تكون في الآخرة أفضل درجات الجنة.
6- إنها أصبحت موطناً لاستجابة الدعاء.
7- إنها أصبحت حرزاً يدفع عن حامل شيء من ترابها البلاء والأخطار.
8- إنها تضمنت في تربتها شفاء الأمراض، وذهاب العاهات.
9- إنها احتوت في تربتها على ما يمنع من عذاب القبر.
10- إنها أصبحت مطافاً للملائكة المقربين وأهل السماوات.
11- إنها أصبحت مزاراً للأنبياء والأولياء، فلو أن الكعبة تقصد في العام مرة، فكربلاء تقصد طول أيام السنة مرات وخاصة ليالي الجمعة، وفي المناسبات.
12- إنها صارت معهداً تخرج الأبرار والصلحاء، والأخيار والأتقياء، ومدرسة تربي الأحرار والأبطال، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والصارخين بوجه الظلم والاستبداد، والمنقذين شعوبهم من الطواغيت وأذناب الاستعمار، وذلك منذ واقعة عاشوراء والى يومنا هذا فكم من كبار علمائنا المعاصرين قد تخرجوا من هذه المدرسة الحسينية، وكم من كبار خطبائنا الكرام تربوا في هذه التربة الطاهرة وكم.. وكم..
هذا وللسيدة زينب الكبرى (عليها السلام) الفضل الكبير ـ كما لأخيها الإمام الحسين (عليه السلام) ـ في إحياء اسم كربلاء، فإنها (عليها السلام) اشترت بمصائبها وسبيها حياة كربلاء، بل واستمرار حياتها، وكذا دوام اسمها رمزاً للتضحية والفداء، وبقاء عنوانها حياً يتفاعل مع النفوس والأرواح، ويتجاوب مع القلوب والعواطف، ويسخر الهمم والأفكار، وينير الدروب والمسالك، ويخيف الطواغيت والجبارين، ويرعب المنافقين والمدسوسين، وذلك على مدى العصور والأزمان, وكرور الليالي والأيام، حتى قال قائلهم: اقتلوا كربلاء.
حتى خطط مخططهم لإبادة كربلاء ونفذ منفذهم مخططاتها، ولكن هيهات هيهات، فان إخلاص السيدة زينب (عليها السلام) وكذلك أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) في إحياء كربلاء وإبقاء حياتها، دفعت في كربلاء روحاً قوية لا تضعف أبداً، ونفساً طرية لا تذبل إلى يوم القيامة. رغم كيد الأعداء لتضعيفها، ومكر الماكرين لإخمادها وإبادتها.
وذلك كما صرحت به السيدة زينب (عليها السلام) لابن أخيها الإمام زين العابدين (عليه السلام) في يوم عاشوراء، وفي ساعة حرجة، كانت المؤشرات كلها، والعلامات الظاهرية بأجمعها، تشير إلى موت كربلاء وموت اسمها، وموت النهضة التي قامت فيها، وموت أصحاب النهضة الذين استشهدوا من اجلها، حتى ارتد الناس على أثرها، ورجعوا القهقرى على أعقابهم، كما ارتد الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانقلبوا على أعقابهم.. ففي تلك الساعة الحرجة، واللحظات العصيبة، والأيام العجاف، تقول السيدة زينب (عليها السلام) وهي تسلي ابن أخيها الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وذلك بكامل إيمانها ويقينها:
(ينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لا يدرس أثره، ولا يمحى رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر، وأشياع الضلال في محوه وتطميسه، فلا يزداد إلا علواً)(بحار الأنوار ج 28 ص 55 ب 2 ح 23).
عندما يتأمل الرائي البحر.. يتيه بين أسراره وعجائبه، وإذا ما ارتمى بين أحضانه يغرق، دون أن يحلّ أيّ لغز فيه! فتراه يضطرب غضباً تارة.. وحنيناً تارة أخرى، وعلى بساط الأمل يبقى متربّعاً عله يفيق من سكرة سحر الجمال (ثمَّ يَهيجُ فتراهُ مُصْفراً ثمَّ يَكُون حُطاماً) فيهشّ وجهه ويكمد، ليخلع على ذاته من مصون الأسرار ما أكنته الضمائر.
لذا وذاك عرجتُ بروحي إلى شواطئ البحر.. ساكناً بعد حراك، وصامتاً بعد نطق لأتعض بهدوّه، وخفوت أطرافه وسكونه.. فلقيته (مَوْجٌ مِنْ فوْقِهِ مَوْج)، والملائك تطوف من حوله، وقبل أن أقدح الزناد لأطلق من فوهة فمي السؤال عن ماهية هذه الأمواج.. خرقت مسامعي ألحان الملائكة وهي ترتل نشيدها:
لــــــــي خـــــــمسة أطـفي بـهم حـــــرّ الجــــــــحيم الـــحاطمة
المصطــــــفى والــــمرتـــــضى وابنـــــيــــهما والـــفـاطــــــمة
فانسابت دموعي لترقص على خدّي طرباً بذكر آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، وراحت الأعاصير التي زحفت بعسكرها على فؤادي تذوب كالملح في الماء.. حيث انصهر الظلام، وتوهّجت بصيرتي بنور اضطمّت عليه جوانحي يسمو بالهداية.. بعد أن برزت هويّة البحر فعلمت أنه محمداً وآله (صلى الله عليه وآله). ثم هويت لأجلس كالعبد بين يدي هذا البحر العظيم الذي لا يدرك قعره، ورحت أنعطف عليه لأغترف منه ما يفيض به عليّ من إشراق وتوقد.. فالتحمت كلتا يديّ وصرن تحت بضعة من جسمه البرّاق، فرفعتها لأغسل بها عوالق الهموم، وأشفي جراحاتي التي لم تندمل بعد.. وإذا بقلبي قد أخذ ينعصر، وطافت سحب الحزن عليه فرحت أستعبر منقباً عن قداستها، وما هي إلاّ هنيهة وإذا بصوت شجي:
هـي صفوة الهادي الشفيع وبضعة مـــــن حـــــيدر وســـلالة الزهراء
فارتعدت مفاصلي، وخشع شعري وبشري، ولحظت أنفاسي كأنها تنخلع في حالة نزع.. من الخبر الملتهب الذي أجّج صراخاتي الصامتة على شفاهي الذابلة من فم القروح، فصرت أتمرغ بين السائل والمجيب في ذاتي المعذبة.. وفرجت بين أصابعي لأضع ما اغرفته على صخرة جاورت أخواتها إلى جانبي فاضطربن اضطراباً شديداً.. فأخذتني الرعدة، وقد اندلع لسان الألم مستفهماً؟!! من هذه البضعة التي أثارت عطف الصخور؟!! وما اسمها؟ وما شأن ارتباطها بالسلسلة الذهبيّة الفاطمية؟.. وإذا الصوت بجسمه يعود بشجوه:
هـي زيـنب الكبرى عقيلة حيدر بثـــــباته فــــــي وجه كلّ بلاء
فعلمت حينها أنّ اسمها زينب وهي سبطة النبي (صلى الله عليه وآله) وبضعته من بضعته، ونور قد انبثق من علي وفاطمة فكانت هي فألبسه الله هيبته، وعلى مائدة التاريخ جلست لأعلم أنّ الله من فاض عليها قداسة ذا الاسم، وبانت جوانب حياتها مشرقة بعد أن رضعت لبان الوحي، وخصّت بتلكم التربية الروحانيّة، ونشأت أسمى نشأة قدسية، فتجلببت جلابيب الجلال والعظمة وتزاحمت السطور المترجمة لها في خزانة التاريخ وهي متخمة بحقائق عملاقة.. متلهفة على حسراتها التي قضت بها، وهي من ألمع نجوم الإنسانية في رسالة الإصلاح والحرية التي حمل لوائها قمر زان سماء العقيدة ببهائه وجماله
وكلما غربت شمس للرسالة أو أفل فيها نجم نراها تزداد تألقاً، وتروح لتزوي الجروح والمحن في جيوب الآلام لتكمل المسيرة التي اعتنقت مبادئها منذ الولادة، فلأي جانب نقصد من حياتها العظيمة يبهرنا سحر إثماره وغزارته.. فعلمها بحر لا ينفد وصبرها موج لا يرتدْ وفي كلّ فجّ لها سيل عارم ومنهلها فيهنّ العبادة.. حين الولادة وإلى الشهادة.. فلها بالله قربى.. كأني بها لا تذوق النوم إلاّ غرارا أو مضمضة متقلبة متضرّعة بين يديه ترتعد مفاصلها هيبة وإجلالاً، وتناجي بلسان أبيها ولئالي الدموع تنهمر من كريمتيها على خزانة أسرار العصمة حتى زانت بتهجّدها أركان المحراب آمرة ناهية، ذائبة في اغتنام الفرصة ورفع الغصّة مؤكدة لقول أبيها (ألا ومن أكل الحقّ فإلى الجنة ومن أكل الباطل فإلى النار)، خافضة بالعلم جناحها ملينة للجانب باسطة للوجه بوجه كلّ يتيم مآسية بينهم في اللحظة والنظرة محذرة للأمة من مبلبل أجسام الملوك وسالب نفوس الجبابرة، لينقلبوا عن الدنيا بالزّاد المبلغ والمتجر الرابح لذا قيل فيها:
فكــــــانت كـــــالأئمة في هداها وإنـــــقاذ الأنـــــام من الضلال
وهكذا تنشر الفضيلة بأخلاقها النابعة من حديقة الكمال التي غرسها الله ثمّ ليشطرها إلى نصفين في عليّ وفاطمة وتعود لتجتمع مكللة بالزهور في تاج الكرامة والوقار تتوّج به زينب العقيلة من آل هاشم:
وكـــم قال ابن عــباس فخوراً: عقــــــيلتنا ويـــــــا نعم العقيلة
لتكون البدر بلا خسوف والشمس دون كسف، ولنعم ما قيل فيها:
بنفسي من حوت أسمى المزايا ومن للـــــمكرمات غدت خليله
ومــــن يسمو الثناء بها ويَحلو وأجــــــدر بالنّعوت المستطيله
فإن كــــــثرت مدائحها وفاضت تُعـــــدّ بشــــأنها السامي قليله
وبعد فقد صارت بأبي هي وأمي غرض الأسقام ورهينة الأيام ورمية المصائب، وانثالت عليها المحن الواحدة تلو الأخرى، فقدُ جدّها ثم أبيها بعد أمها وسمّ أخيها حتى ينتهي بها العزاء إلى كربلاء لتمنع العذب وتحلس الخوف مع فتية نحتوا في الصّخور نصر الجيد ولولاهم ما قام عمود الدين ولا أخضر عود الإيمان، ولتتحمّل ما عجزت عنه جبال رضوى:
فأبـــــــدت بعد يوم الطفّ حزماً ومــــا مــن حرّة أبـــــت مثيله
وحلمــــاً لا يقاس بثقل رضوى محال بـأن يرى رضوى عديله
لقد وثــــق الحســـين بها لكيما تقوم بحــــمل أعـــــباء ثقـــيله
ثمّ راحت لتكمل مسيرة الجهاد بخطبها الرنانة في مجالس الظالمين:
وكان جـــــهادها بالقول أمضى من البيض الصــوارم والنضال
فليس لها من نظير بصبرها على مضض الألم، وإليها تشخص أبصار الغوّاصين في خزائن العظمة والمتاحف والإنسانية، وفي بحر صبرها السلوى لكلّ متأوّه وذات أنين:
يـــــا قلــــــب زينب ما لاقيت من محن فيـــــك الـــرزايا وكلّ الصّبر قـد جمعا
لو كان ما فيــــــك من صبر ومن محن فـي قلب أقوى جبال الأرض لانصدعا
يكفـــــيك صبراً قـــــلوب الناس كــلّهم تـــــــفطّرت للذي لاقـــــيته جــــــزعــاً
وقد أكملت بناء ثورة أخيها الحسين (عليه السلام) إلى القمة لتبقى شاهقة تناطح السحاب، وتتكسّر عند أعتابها أحلام الطغاة، وهي النجم لم يأفل بتجلببها الصبر وتجلدها للعبادة.. لنحيى نحن فنكون بدراً يجدّد أرضاً غرّسوها جثثاً وسقوها بدم.. يفوح عطراً بالولاء.. وهو يصدح نشيداً على مائدة الحروف.. الناطقة من سكون صمت كلمة حسين، مستلهمين النهج الزينبي بنصّه المعبّر: إن في إبراز المظلومية حقيقة الانتصار.
وهكذا براكين الضمائر تغلي.. لنمشي على الجروح.. لتحال منا أفواج العبرات.. دمع ينزف.. وصوت يهتف ملتحماً بصوت العقيلة في مجلس يزيد: (فوالله لا تمحو ذكرنا).. لنقول:
نحن أبكينا الدموع.. ما بكينا.. وابتسمنا.. رغم أنف الظالمين
وانتصرنا.. في السجون.. تحت السياط.. بعد ما نحن صبرنا
وانتصرنا.. بالحياة.. حيثما خط العلم.. نحن أنصار الحسين
السيدة زينب أحيت اسم كربلاء وأبقت آثارها
لقد شرف الله تعالى فاطر الأرض والسماوات، ارض كربلاء على باقي الأرضيين، وذلك لان في كربلاء حيي الدين، وقام على قدم وساق، واستطاع أن يواصل مسيرته التقدمية، لينفذ في أعماق القلوب وينورها، وفي غور التاريخ والأجيال ويسعدها.
ولذلك لما افتخرت ارض الكعبة أم القرى وتباهت على سائر الأرضيين، لأنها مركز بيت الله، ومحل أمان عباد الله، خوطبت من عند ذي الجلال والإكرام: (أن اسكتي ولا تفتخري ولا تتباهي، فان هناك أرضاً اشرف منك وهي ارض كربلاء).
والسر في كون كربلاء المقدسة اشرف من الكعبة وأفضل منها واضح، لأنه لولا واقعة كربلاء، واستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) فيها، وإراقة دمه الشريف ودماء أهل بيته وأصحابه على أرضها، ومواراة جثمانه الطاهر والشهداء السعداء معه في تربتها، وما أصابهم من ظلم وجور، وهتك وفتك فيها، مما كشف عن نفاق بني أمية وكفرهم، وعدائهم للإسلام والقرآن، وحقدهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، لما بقي هناك على الأرض موحد يعرف الله ويعبده، حتى يتوجه في عبادته إلى الكعبة ويصلي إليها.
وعليه: فان ارض كربلاء لما صارت مركزاً لإحياء الدين، وقاعدة لانطلاقه إلى القلوب، ومقراً لتحركه نحو الأجيال والتاريخ اختصت بميزات تالية:
1- إنها تأهلت لان تحتضن ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيد شباب أهل الجنة، الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته الطاهرين، وأصحابه المنتجين.
2- إنها أصبحت مقراً لارتفاع الدرجات، ومحلاً لارتقاء المقامات، حتى انه لم يكن هناك نبي ولا وصي نبي، إلا وأمر بزيارة كربلاء ليكتسب عبرها جاهاً عند الله تعالى وقرباً إليه، ولم يستثن من ذلك حتى جده خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) حيث زار كربلاء ليلة المعراج، وحتى أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث زارها في طريقه إلى صفين.
3- إنها حظيت بالسعادة وصارت قطعة من ارض الجنة، وبذلك صارت مأمناً لمن دفن فيها من محبي محمد وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)، حيث يحشرون منها إلى الجنة بغير حساب.
4- إنها أصبحت مثوىً للائمة المعصومين (عليهم السلام) حيث كان يفرش في القبر أولاً وقبل الدفن شيء من تراب كربلاء.
5- إنها تكون في الآخرة أفضل درجات الجنة.
6- إنها أصبحت موطناً لاستجابة الدعاء.
7- إنها أصبحت حرزاً يدفع عن حامل شيء من ترابها البلاء والأخطار.
8- إنها تضمنت في تربتها شفاء الأمراض، وذهاب العاهات.
9- إنها احتوت في تربتها على ما يمنع من عذاب القبر.
10- إنها أصبحت مطافاً للملائكة المقربين وأهل السماوات.
11- إنها أصبحت مزاراً للأنبياء والأولياء، فلو أن الكعبة تقصد في العام مرة، فكربلاء تقصد طول أيام السنة مرات وخاصة ليالي الجمعة، وفي المناسبات.
12- إنها صارت معهداً تخرج الأبرار والصلحاء، والأخيار والأتقياء، ومدرسة تربي الأحرار والأبطال، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والصارخين بوجه الظلم والاستبداد، والمنقذين شعوبهم من الطواغيت وأذناب الاستعمار، وذلك منذ واقعة عاشوراء والى يومنا هذا فكم من كبار علمائنا المعاصرين قد تخرجوا من هذه المدرسة الحسينية، وكم من كبار خطبائنا الكرام تربوا في هذه التربة الطاهرة وكم.. وكم..
هذا وللسيدة زينب الكبرى (عليها السلام) الفضل الكبير ـ كما لأخيها الإمام الحسين (عليه السلام) ـ في إحياء اسم كربلاء، فإنها (عليها السلام) اشترت بمصائبها وسبيها حياة كربلاء، بل واستمرار حياتها، وكذا دوام اسمها رمزاً للتضحية والفداء، وبقاء عنوانها حياً يتفاعل مع النفوس والأرواح، ويتجاوب مع القلوب والعواطف، ويسخر الهمم والأفكار، وينير الدروب والمسالك، ويخيف الطواغيت والجبارين، ويرعب المنافقين والمدسوسين، وذلك على مدى العصور والأزمان, وكرور الليالي والأيام، حتى قال قائلهم: اقتلوا كربلاء.
حتى خطط مخططهم لإبادة كربلاء ونفذ منفذهم مخططاتها، ولكن هيهات هيهات، فان إخلاص السيدة زينب (عليها السلام) وكذلك أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) في إحياء كربلاء وإبقاء حياتها، دفعت في كربلاء روحاً قوية لا تضعف أبداً، ونفساً طرية لا تذبل إلى يوم القيامة. رغم كيد الأعداء لتضعيفها، ومكر الماكرين لإخمادها وإبادتها.
وذلك كما صرحت به السيدة زينب (عليها السلام) لابن أخيها الإمام زين العابدين (عليه السلام) في يوم عاشوراء، وفي ساعة حرجة، كانت المؤشرات كلها، والعلامات الظاهرية بأجمعها، تشير إلى موت كربلاء وموت اسمها، وموت النهضة التي قامت فيها، وموت أصحاب النهضة الذين استشهدوا من اجلها، حتى ارتد الناس على أثرها، ورجعوا القهقرى على أعقابهم، كما ارتد الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانقلبوا على أعقابهم.. ففي تلك الساعة الحرجة، واللحظات العصيبة، والأيام العجاف، تقول السيدة زينب (عليها السلام) وهي تسلي ابن أخيها الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وذلك بكامل إيمانها ويقينها:
(ينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لا يدرس أثره، ولا يمحى رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر، وأشياع الضلال في محوه وتطميسه، فلا يزداد إلا علواً)(بحار الأنوار ج 28 ص 55 ب 2 ح 23).