شخصيته .. واعتراف معاوية
أشواق أهل المدينة المنورة:
دخل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، يثرب التي نارت به وتنوّرت بوجوده فأضحت تدعى ((المدينة المنورة)) .
وعاش الرسول معهم حتى ألفوه، وما أن رحل عنهم منتقلاً الى الرفيق الأعلى حتى اتخذوا من سبطيه الحسنين عوضاً عن صورته وأخلاقه الخلاقة، فهم ينظرون إلى الحسن والحسين فيتذكرون بهما رسول الله ذلك المنقذ العملاق، سيد المُحررين من شتى أشكال العبوديات.
وبعد أن ولد علي الأكبر وتسلق السنوات، فشب فتى هاشمياً محمدياً وظهرت عليه مجمل خصائص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى راحوا يتشوقون إليه، ليستمدوا من ملامحه وشمائله ومعانيه وجماله ذكرى الرسول وذكرياتهم الماضية مع رسولهم الهادي..
فعلي الأكبر يعكس لهم الصورة الحيوية لسيد البشرية الراحل، فهو صورة طبق الأصل كما تبدو لناظريهم وبرؤية واضحة ليست غامضة، وقد روي أنهم إذا اشتاقوا للنظر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، طفقوا إلى عليّ الأكبر يزورونه ويتزودون من طلعته البهية، بحيث أن هذا الانعكاس الحيوي للصورة النبوية المقدسة أقرها والده الحسين وهو إذا اشتاق لجده تطلع إلى ولده..
على أن عواطف أهل المدينة وأشواقهم لنبيهم وأهل بيته كانت تقابل بالتجاوب طبعاً، فلم يضن عليهم ـ علي الأكبر - بلقاء أو مجالسة في المدينة وأحيائها أو داخل المسجد النبوي الشريف أو في بيته الخاص... إذ روي أن الإمام الحسين (عليه السلام) أفرد له بيتاً مستقلاً خاصاً به، فأخذ يستقبل المحبين معرباً عن خاصية الكرم، ومترجماً عملياً موقفه من الضيافة، فمن الناس من يفد عليه للتحدث إليه والتعلم بين يديه، ومن الناس من يزوره نوالاً لجوده وعطاء يده الكريمة، فضلاً عما يهدفون إليه من التزود من ذكريات الماضي المجيد ويوميات الرسالة والرسول الذي تتجلى معالمه على سليله علي (عليه السلام) ..
كان يؤم داره أناس من جميع الطبقات والمستويات، لاسيما الفقراء.. كان داره عبارة عن منتدىً ثقافي للوفود، ومنتجع للكرم والجود.
أما الشعراء فلم تفتهم الفرصة لدخول بيت كرمهِ من باب جوده وعلو شرفه.. حتى وصفه أحدهم فقال عنه:
لـم تـرَ عيـن نظـرت مثله من محتفٍ يمشي ومن ناعلِ
يغلـي بنـيّ اللحـم حتـى إذا أنضـج لـم يغـل على الآكل
كـان إذا شــبت لـه نـاره أوقـدها بالشـرف القـابـلِ
كيـما يـراها بائـس مرمـل أو فـرد حـي ليـس بالآهلِ
أعني ابن ليلى ذا السدى والندى أعني ابن بنت الحسب الفاضلِ
لا يـؤثر الـدنيا علـى ديـنه ولا يبيـع الحـق بالباطلِ (1)
تلك القطعة الأدبية والمقطوعة الشعرية، تعتبر وثيقة على حقيقة فتح بابه لكل الطبقات والهيئات والفئات.
والذي نستشفه من تلك الأبيات، هو أن الشاعر قد شاهد علياً وكان له معاصراً،
أنه رآه عياناً، بمشيته ومظهره ـ حسبما يوحي البيت الأول.. أما البيت الثاني فيفيد بأنه كان حريصاً على السخاء والبذل، بحيث أنه يعلن عن موقع الجود وذلك بإيقاد النار فوق المكان العالي المرتفع كعادة الكرام المحسنين، تلك النار التي تدلل على البيت والمضيف، وقد كان الغرباء والفقراء المعسرون يتطلعون دوماً إلى الأماكن التي تتصاعد منها ألسنة النيران كيما ترشدهم إلى صاحب الضيافة، وسيد الكرم، حسبما عبر البيت الثالث والرابع.
ثم يمجد السيدة ليلى ذات الشرف والحسب الفاضل، ليختم ببيت هو في غاية الأهمية، إذ يؤكد عقائدية هذهِ الشخصية وصرامتها وحديتها بحيث لا قيمة للحياة ولا فائدة من التعامل بالباطل، بل لا معنى للحياة بحضور الباطل، أنه لا يؤثر الدنيا، كما لا يستعيض عن الحق والحقيقة بالأثمان القليلة الرخيصة لأنه ليس من عشاق الحياة الدنيا، انه صاحب قضية فهو صاحب موقف لا يغيره لأنه رائد من رواد الحق.. ذلك هو البيت الأخير وهو أيضاً بيت القصيد.
كان أهل المدينة يرتادون منزله الرحب الواسع بما فيه وبما يحويه، فالبائس بحاجة ماسة إلى من يطعمه، وإن من ليس له أهل أو لا يملك قوت يومه، بحاجة ملحة إلى تلك النار التي تعلو لتدعو الجائع ولتعلن مدى كرم من أوقدها وأشعلها...
هكذا كان نظير جده في الخَلق والخُلق والمنطق. ولا أكتمكم سراً، لو قلت بحقيقة أن أهل المدينة ينطلقون في أشواقهم لرؤيا النبي بلقاء علي من باب العواطف والذكرى فحسب، لا من باب تجديد عهد
بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تأكيد ولاء لعلي.. بدلالة موقفهم من الثورة الحسينية المتمثل بالإحجام والتهرب وعدم الأسهام، إلاّ من عصم ربك من المؤمنين حقاً (وقليل ما هم).. المؤمنون فقط لا غيرهم.. (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) قرآن كريم.
ذلك هو الذي كانت المدينة عامرة به وبأبيه العظيم، كانت عامرة بوجوده وجوده، بكيانه وكرمه، بسموه وسخائه.. الذي كان موطن حب للمسلمين، والذي عاش وهو محط أشواق الناس لنبيهم.
الصلابة والبأس الشديد
في مسيرة الركب التاريخية:
انطلق الركب الحسيني بمسيرته التاريخية من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة، البلد الأمين، دار السلام والاطمئنان، وبعدما أضحت مكة غير ذات أمان مهتوكة الحرمة، ولأسباب متظافرة اتجهت المسيرة العملاقة نحو الشمال إلى العراق حيث إقليم الكوفة فكربلاء.
وأخذ الركب يلف الصحراء ويطوي البيداء، ويعبر ويصعد الهضاب ويقطع السهول متجاوزاً التلال والمرتفعات . يحث خطى السير لا يلوي على شيء... قد حملت الجمال معدات السفر والعتاد، ومحامل النساء... فيما امتطى الفرسان صهوات جيادهم..
وقد لحقهم مئات من الرجال النفعيين الذين ظنوا باقبال الدنيا على الحسين (عليه السلام)، وقد أدرك الإمام دوافعهم فسلك معهم عدة أساليب لارجاعهم وإبعادهم عن جهاده النقي، وللإبقاء على صفوة الرجال وخلاصة الرساليين الأبطال، ممن لا منفعة دنيوية تحدوهم ولا مصلحة شخصية تدعوهم، إلا إعلاء كلمة الله بإظهار الحق ودمغ الباطل(1).
مرّ الركب بعدة مناطق في الطريق، كمنطقة الصفاح، وزرود والخزيمية. ومنطقة الثعلبية ... الخ.
وهنا في هذه المنطقة بالذات حيث بلغها الركب في المساء، وعليّ الأكبر يسير معهم ليلاً نهاراً، يسير كلما ساروا ويقف كلما وقفوا، ويحث جواده كلما حثوا الجياد.. حتى بلغ منهم النصب وأخذهم التعب، وفي ذلك المساء بتلك المنطقة غفا الإمام الحسين، وأخذه الكرى، فرأى في نومه المؤقت رؤيا أزالت عنه الكرى، وفتح عينيه على أثرها، وأخذ يسترجع ((إنا لله وإنا إليه راجعون)) (2) وهذا عبارة عن تعقيب على مضمون الرؤيا ومعناها.
فانتبه نجله علي الأكبر الذي كان يسير على مقربة منه فالتفت حالماً سمعه، ليستفسر من والده العظيم عما دعاه للإسترجاع، فأجابه الأب القائد:
((رأيت فارساً وقف عليّ، وهو يقول: أنتم تسيرون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة، فعملت أن أنفسنا قد نعيت إلينا)) وفي رواية لا توجد عبارة ((.. إلى الجنّة)).
فبادر ولده علي قائلاً بصرامة المؤمن القوي: ((يا أبة أفلسنا على الحق؟)) قال إمام الحق: ((بلى يابني، والذي إليه مرجع العباد)).
فرد علي بكلمة نابعة من العزة والإباء ((يا أبة إذن لا نبالي بالموت)) وفي الأعيان أنه قال: (( فاننا إذن لا نبالي أن نموت محقين)) فعقب والده الإمام بكلمة التقدير العالية الرفيعة، التي جاءت بصيغة الدعاء، وأي دعاء من أب لولده، أم أي كلمة هذه التي ينطق بها الإمام الحسين شخصياً لولده عليّ الأكبر بالذات.. ((جزاك الله يا بني عني خير ما جزى به والداً عن والده)) (3). وهكذا هي تحية الإجلال لموقف الصلابة الشجاع.. أكرم بهذه الأبوة وتلك البنوة، الممتدين من أصول الأنبياء وخاتم النبوة.
لقد تحدى كل العقبات والمعوقات التي تحول دون تحقيق أهداف الحق، فطالما نحن على حق ينبغي أن لا نهاب الموت، الموت الذي حتى لو أيقنا قربه ودنوه منا، الموت المؤكد في الموقف المعين بالذات، الموت على الإيمان واليقين .. واليقين من أسماء الموت: ((أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وأطعت الله ورسوله حتى أتاك اليقين))..
فلابدّ من نصب الموت أمام الأعين في السلم والحرب، ولابدّ للمؤمن من حمل الكفن إن لم يحمل معه خشبة الصَلب.. فلا يقولون أحد أن منيته وأجله في غيره هذه الحادثة الجهادية أو هذه الحرب، لأن ذلك معناه سابق نية على التهرب والإنسلال وعدم الرغبة في تمام التحرير وكامل الاستقلال..
ان هذه الرواية وحديث علي مع أبيه لابدّ أن نستفيد منه ولنتعرف على حقيقة شخصية علي من خلاله.. ((وفي الحديث من الدلالة على جلالة علي بن الحسين الأكبر، وحسن بصيرته، وشجاعته ورباطة جأشه، وشدة معرفته بالله تعالى، ما لا يخفى)) (4) .
لقد كان حواراً جهادياً عظيماً، يذكرنا بحوار نبي الله إبراهيم مع نجله النبي إسماعيل.. فحينما قص إبراهيم الرؤيا، (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ).. أجابه ابنه إسماعيل بقوله: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) القرآن الكريم.
فثمة تشابه من حيث الغرض وهو الفداء والتضحية غير أن ثمة فوارق.. فجواب إسماعيل كان مفروضاً عليه بحكم طبيعة الرؤيا فهو مطالب بالرد المناسب ومطلوب للتضحية بذاته دون سواه. بينما لم يكن مفروضاً على علي الأكبر أن يجيب وليس الرد مطلوباً منه، ولم يك مطلوباً للتضحية بذاته ولوحده، وكان بمقدوره أن لا يجيب على ما ذكره أبوه من رؤيا.. لكنه أجاب بنبرات الصارم وعزيمة الصابر الصامد الذي لا يلين..
ولا نريد أن نعقد مقارنة بين الحوارين، فلا تفاضل بين النجلين الطاهرين، بحصول الفرق بين الموقفين وطبيعة القضيتين..
وبعد فقد تقدم إسماعيل صابراً، ليقدمه والده قرباناً ويبقى هو - والده - حياً، ثم غير الله سبحانه قضاءه إذ بدا له أن ينزل كبشاً كبديل (فَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) فنجا إسماعيل من مذبحة كادت تنهيه.
بينما تقدم علي الأكبر مع والده وكوكبة الرجال والشبان صفوة الأمة المسلمة، تقدم بأقدام ثابتة وخطوات لا تثنيها أي قوة مضادة إلى حيث مذبحة الذي ذبح عليه وقطع تقطيعاً هو ومن سبقه، بمرأى والده، بل مضى حتى والده قرباناً وضحية، أجل ذلك بحكم اختلاف القضية، ويا لها من قضية عظيمة لا كبش - مهما كان عظيماً - يعوضها أو يعادلها..
أجل سار علي وواصل مع الركب المجيد، سار والحق يحدوه، وأمامه نصبت صخرة الذبح من أجل أقدس قضية حَتَمَت أرقى فداء وتفانٍ وتضحية..
________
1- وقد سبق لنا دراسة هذه الحالة وعمليات التصفية والتمحيص الحسيني لذوي الدوافع الرخيصة والبواعث اللاعقائدية . وذلك في القسم الثاني من كتاب (الدوافع الذاتية لأنصار الحسين).
2- في رواية أنه قال (إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله ربّ العالمين) أعيان الشيعة للسيد الأمين ج 41 ص 171
3- الفتوح لابن أعثم : ج 5 ص 123 ، وبحار الأنوار للمجلسي ج 44 ص 379، 380 وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص 346 والأعيان .. وغيرها بتفاوت ملحوظ في صيغ الروايات المدونة.
4- السيد الأمين في الأعيان .
علي يرابط في كربلاء مع المرابطين:
حتى إذا وصل الركب في مسيرته، ربى الطف، وتلاع شاطئ الفرات، وقف الإمام الحسين ليتعرف على اسم المنطقة وما هي إلا برهة زمنية حتى أعلن بأنها موعده ومستودعه ومنازل الأبطال ومقابر الشهداء.
..ها هنا والله مناخ ركابنا.. وهنا هنا قَتل رجالنا.. حتى قال .. وها هنا تزار قبورنا.. بهذه التربة وعدني جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا خلف.
فنزلها الرجال والشباب، وقد انطلق الصبيان يلعبون ويرتعون، بينما أخذ الرجال يبنون البيوت وينصبون الفساطيط والخيام، فبانت أطناب الخيام وظهرت مواقعها بأهلها المرابطين على الحق .. ورابط علي الأكبر في بطحاء كربلاء، منذ اليوم الثاني حتى العاشر من شهر محرم.
أما الجيش المعادي الذير يرابط على شط الفرات فقد أخذ يتكاثر كل ضحى وكل يوم حتى كملت عدته يوم تاسوعاء، إذا كانت الكتائب تتوافد لترابط قِبالة الجبهة الحسينية.. ولكثرتها تسنى لها تنفيذ أوامر منع الماء الصادرة من ابن زياد، حيث ضربوا على نهر الفرات حصاراً يحول دون بلوغ ضفافه أي ضام عطشان.
وظل علي في انتظار دوره وأداء مهامه، فهو يترقب بدء القتال مع الأعداء، وبدء دوره خصوصاً، إذ كان في رأيه أن يكون هو أول قتيل وشهيد.. لقد وقف إلى جانب ثلة الهاشميين تحت لواء عمه العملاق، العباس بن علي (عليهما السلام). ليطالب بأن يكونوا هم - بنو هاشم - أول من يبرز للميدان.
بيد أن عصبة الأنصار ترى أنها هي الأول دخولاً للميدان وقد تجمعوا تحت لواء المجاهد حبيب بن مظاهر الأسدي وهم يطالبون بعدم سبق الهاشميين للجهاد والقتل.
وتدور بين الطرفين مباراة كلامية.. ويستمر تنافس الجناحين على الظفر بالأولوية لخوض غمار الحرب العادلة.. ولا أحد يرضى بأن يكون ثانياً، كل يؤثر نفسه على الموت قبل غيره، وبطبيعة الحال فان عليا كان أكثر عزماً وأشد رغبة في إحراز تلك الأسبقية والأولوية، فهو من جناح الهاشميين الذي يقول بضرورة تَقَدم بني هاشم لأنهم حَمَلة الرسالة وثقل الحديد لا يحمله إلاّ أهله..
وأخيراً احتكم الجناحان إلى الإمام الحسين (عليه السلام) فحكم الإمام القائد للأنصار بالسبق لدخول الساحة..
وظل الهاشميون في ترقب لدورهم..
وظل علي الأكبر خصوصاً أشد شوقاً لساعته ولحظات سعادته.
السبق للجهاد
المبادرة الفورية:
لقد أدى الأنصار أدوارهم على أحسن ما يرام، فمضوا إلى حيث نعم الله ورضوان ربهم وجنان وعدهم إياها، إنه لا يخلف الميعاد.
ولم يدع علي واحداً يسبقه، بعد اذ انفرد الإمام وأهل بيته، فكانوا البقية الباقية من الشجرة المحمدية، والوحيدون على وجه الأرض، من آل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فطفق بعضهم يودع بعضاً . ومال أحدهم على الآخر يعانقه بحرارة وشوق .. وصف المؤرخون ذلك المشهد الرهيب واتفقوا على هذا المعنى:
((لما قتل أصحاب الحسين (عليه السلام) ولم يبق معه إلا أهل بيته خاصة، وهم ولد علي بن أبي طالب (عليه السلام) وولد جعفر وولد عقيل، اجتمعوا يودع بعضهم بعضاً، وعزموا على الحرب، فتقدم علي بن الحسين (عليه السلام)، وكان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خَلقاً وخُلقاً)).
أما وداع علي لأهله من النساء كأمه واخواته وعماتهِ لاسيما عمته الحوراء زينب (عليها السلام)، فقد حفل بالآلام والأشجان.. فقد آن فراق ذكرى المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا شعرن وأحست كل منهن..
ظهر علي بأنه شديد الحرص على السبق للساحة وعلى أن يكون أول ضحية وقرباناً لله سبحانه وتعالى (1).. وهذه الظاهرة تحتاج إلى وقفة... فلاشك أن المسؤوليات الجسام لا تناط إلا بأهلها، وخليق بهم تحمل عبئها وما يترتب عليها من مضاعفات، لأنهم سدنة الرسالة، وحراس المبادئ ذات الأصالة.. فهم لا يختارون التأخير عن دورهم، الأمر الذي يفسر حالات التنافس بين الهاشميين والأنصار، وعمليات الرهان على الأسبقية، كما أشرنا حيث حسم الإمام ذلك الموقف لرغبة الأنصار المجاهدين على رضى منه..
أما وأن علياً يسبق اخوته من الهاشميين. فذلك ما يفسره نفس المعنى، فنظراً لكونه نجل الإمام القائد المنحدر من صلبه الشامخ، فهو يشعر بخصوصيته، لا لكي يسلم وينعم، بل لكي يبادر ويعمل ويضحي فيكون المثل الأعلى...
وليس هذا من باب المفاضلة والمكابرة، بقدر ما هو من باب الإيثار، فخليق به أن يتقدم على الجميع مؤثراً سلامتهم وعدم نظرهِ لجراحهم أو مواقع مصارعهم..
ولما كانت القضية قضية الإسلام الحسينية، فلا يحسن به أن ينتظر إلى آخر شوط وآخر دور، فهو نجل القائد، ومن باب أولى أن يكون هو المتقدم..
وهكذا يتجلّى علو التربية ورفعة التوجيه وسمو الآداب وجلال التهذيب المتوفر في شخص علي الأكبر... فما كانت تربية أهل البيت تنص على معنى يخالفه عملهم، ليس فيهم قوال غير فعال... وانما جبلوا على ممارسة تطبيقات مقررات الرسالة والدين الحنيف وحتى الآداب والمثل البسيطة والمفاهيم الخلقية العملية..
______
1- وقيل أنه ليس الأول ، بل لقد أدرجه ابن أعثم في الفتوح : ج 5 ، ص 207 فجعله آخر من قتل، وهذا ما لا شهرة فيه..
المجاهد العنيد
الجولة الأولى:
وامتشق حسامه المهند من غمده، ونزل مخترقاً صفوف العدو المتكبر، فراح الأكبر في كبرياء العز يضرب الأجلاف ويجندل الجبناء، ويحصد بهم فيوقع أكبر الخسائر في أوساطهم.. راح يضربهم فوق الأعناق ويضرب منهم كل بنان..
ظهر تأثيره عليهم حينما دخل دائرتهم وأخذ يخوض في وسطهم العسكري، ليمزق جمعهم ويفرق صفوفهم ويشتت شملهم الشريد، فقلب وقوفهم وحالة سكونهم إلى حركة دائمة، وركض وهروب فهزيمة فالرجل من إذا هرب نجا..
وغاب شخص علي الأكبر بينهم غياباً تاماً يتجلى للعيان بما يلعبه فيهم ويؤثر عليهم، فلا يظهر منه غير نشاطه المتمثل بهز العسكر وزعزعة الجيش إذ كان نزاله المسلح بكل طاقاته وقدراته مما أعيى الفرسان المدججين والكماة الناصبين، واستمر في فعالياته البطولية يخرق الصفوف ويتحدى السيوف.. نزل فيهم نزول الأسد الجريح، وخاض بهم خوضاً لم يشهدوا له مثيلاً قط، فما يترك كتيبة إلا وعاد إليها وما يلبث أن يرجع لمن فرقهم بسيفه الصقيل، مضى يتصرف بهم حسبما يريد، وقد عجزوا عن وضع حد له وإيقاف قواه التي تواصل استعراضهم فتكيل لهم الضرب وتنزل بهم الخسائر الجسيمة.. (ولهذا حرصوا على أن ينتقموا منه بعد قتله، وذلك بتمزيق جسده).
حتى إذا ماجهلوه وظنوا أنه علي بن أبي طالب قد خرج إليهم، لأنهم لم يصدقوا أن هذه الحملات الشجاعة لغيره، طفق يكشف لهم عن هويته المقدسة واسمه الشريف - كما قيل عن سبب ارجوزته التالية - . أو أنه أراد توضيح شخصيته ومهمته المنوطة به فبادر معلناً لهم، وهو ما زال ماضياً بعزم لا يلين، ينشدهم أنشودته الخالدة وأرجوزته المجيدة:
أنا علي بن الحسين بن علي نحن ورب البيت أولى بالنبي
تا لله لا يحكم فينا ابن الدعي أضرب بالسيف أحامي عن أبي
ضرب غلام هاشمي علوي(1)
أعلن لهم أنه نجل الحسين حفيد أمير المؤمنين علي..
كما أعلن رفضه لحكم الطلقاء وسياسة ادارة الأدعياء فلا وفاق عليها مهما بلغ الثمن: ((تا الله لا يحكم فينا ابن الدعي)).
أبلغهم أنه سيواصل سيره بسيفه المصلت فوق رؤوسهم ذاباً عن الدين الحنيف ومحامياً لأبيه سيد الأمة..
نبههم أن صرامته وتصلبه، وضرباته الفتاكة لها ما وراءها من رصيد هاشمي، فقوة ضربته وعزيمة ساعده، وتحمله لمشاق المعارك وهول الحروب انما له أصالته بدءاً من هاشم خير الكيان القرشي.. تلك المعاني السامية والإيحاءات الجدية تصك أسماع الأعداء، وهو يكرر انشودته ويكر عليهم كرات جده الكرار فلا يعرف أي معنى للفرار..
((فلم يزل يقاتل حتى ضج أهل الكوفة لكثرة من قتل منهم، حتى روي أنه على عطشه قتل مائة وعشرين رجلاً)) (2).
___________
1- الارشاد للشيخ المفيد، وغيره كالمقتل للخوارزمي وأعيان الشيعة، وفي الفتوح بعض الزيادة عن هذا .. وفي الطبري والكامل نقصان عنه... وهكذا بتفاوت جلي...
2- مقتل الحسين ـ للخوارزمي ح 2 ص 30 وفي الفتوح جاء ((فلم يزل يقاتل حتى ضج أهل الشام من كثرة من قتل منهم، فرجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة)) ج 5 ص 209 بمعنى أن ثمة تسليم بوجود بعض الشاميين .
لم يفت في عضده العطش بل حتى الجراح المعضلة، يسمو يحدق فيهم متعالياً فوق الجواد الناهض .وإذا ما تحاوموه بجمع وكتائب يردهم ويجبرهم على التقهقر والنكوص قسراً..
يرمي الكتائب والفلا غصت بها في مثلها من بأسـه المتوقـد
فيـردها قسـراً على أعقـابها في بأس عرنين العـرينة ملبد
وما همّ بالعجز، وهو شامخ على صهوة جواده بجراحه الدامية المتدفقة دماً عبيطاً، حتى إذا زاد ألم العطش وأخذ منه مأخذاً إلى جانب الجراح والدماء السائلة، رجع وهو يأمل أن ينال شربة من الماء لو وصل إلى المخيمات..
الانتقام:
((عليّ آثام العرب إن مر بي وهو يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه)) (1).
هذا ما قاله أحد المرتزقة في معسكر العدو، وقد التاع وتعذب من شدة حملات علي الأكبر وصولاته حتى بلغ من البغض له والحنق عليه والحقد بحيث صمم على التصدي لهذا المجاهد العطشان، ولا شك أن هذا المرتزق قد ذاق أنواع العذاب من هروب وهزيمة وجبن من سيف علي الأكبر، ولكنه حينما لاحظ تعب عليّ وارهاقه تجرد من جبنه واستجمع جرأته وقال قولته تلك.. انه المدعو (مرة بن منقذ بن النعمان العبدي) الذي تتضح روحه الجاهلية من كلماته ومنطقه ((عليَّ آثام العرب.. والحق أن آثام العرب يستحقها وهي عليه وهو بمستواها، إذ أنه كاره ومعادٍ وقاتل لأشبه الناس بسيد العرب والعجم، وبالرغم من المنطق القرآني الناهي لمثل ذلك المعنى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) نجد أن ذلك الجندي الجاهلي مصمم على تحمل أوزار العرب، مع أنه مستوزر كثيراً من الأوزار، وهكذا أحب أن يحمل على ظهره هو ومن على شاكلته أوزاراً ثقيلة لا طاقة لهم ببعضها.. (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) قرآن كريم.
ولولا العار عليه من قبل رفاقه لصمم ولأقسم باللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى، لكن صيغة تصميمه تلك أقل كشفاً لمضمونه الجاهلي كما يتوهم، وعلى كل حال فإن الأهداف والدوافع الدفينة قد انكشفت، وتكشفت عن الحرب الجارية هذه حقائق لم تخف أو تنطمس.
الحرب قد بانت لها حقائق وأظهرت من بعدها مصادق
ولكي لا نهمل النص السابق علينا أن نلاحظ ما فيه ونرى ما يمكن أن نستوحيه . قال: ((... إن مر بيّ))، كما قال : ((.. وهو يفعل مثل ما كان يفعل)).
يبدو جلياً أن علياً كان لا يترك لهم جمعاً إلا ومر به ولا كتيبة إلا وهاجمها، وكأنه كان يستعرضهم بحملاته استعراضاً عسكرياً مرعباً، بحيث أنه ما أن يترك كتيبة إلى غيرها حتى يعود إليها وإلى غيرها، وهكذا دواليك بنشاط منقطع النظير بحيث أنهم يتوقعون معاودته وكرته عليهم ثانية لهذا توقع ذلك الجندي فقال ((.. إن مر بي)).
ويبدو أنه كان يفعل بهم فعلاً لم يشهدوه طوال حياتهم العسكرية من شاب مسلح بمفرده، فكان استعراضه للجيش رهيباً، ان مرة العبدي لاحظ حرص علي الأكبر على تلقين جموعهم دروساً قاسية وتعليم جحافلهم حقائق بطولية رسالية لاتنسى لاحظ حرصه على عدم إهمال أي كتيبة دون أن يطعمها بالقتلى والجرحي ويختم لها بالهزيمة المنكرة فحقد حقداً قوياً . ((عليَّ آثام العرب، إن مرّ بيّ وهو يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه)).
فانتظر دور الكرة العلوية على كتيبته الأموية، وقد نزع منه لباس الهروب والهزيمة، وكأنه نسي أنه جبان جلف جافي.. فراح يتربص ويلتمس الفرص، ليطعنه ولو عن بُعد منه، وبينما كان الشجاع العطشان يستعرضهم رغم ضعف بدنه ذي الجراح المثخنة المكثفة، ويزحف على جموعهم بالتتابع، كأنما هو زحف منتظم، وبينما كان يشق طريقه مقاتلاً بقواه الباقية، دنا الجندي المرتزق فتأهب مستجمعاً جرأته على الله ورسوله، وجسارته على الحقائق مسدداً رمحه الطويل في ظهر علي(2) (سلام الله عليه) فغرز الرمح - أو السهم - فيه، فانحنى علي على جواده، ثم ثنى له العدو بضربة على رأسه الشريف، ففجه، حينها أطلق علي الأكبر صوته بالسلام علي أبيه:
((يا أبتاه عليك مني السلام. هذا جدي يقرئك السلام ويقول لك عجل القدوم إلينا)).
ثمّ شهق شهقة فاضت أثرها روحه الزكية..
لكنهم لم يتركوه، فثمة دور ومهمة لهم. ترى ماذا فعلوا به وبجسده الذي أذاقهم مرّ طعم المواقف المسلحة؟؟؟
________
1- الطبري ح 4، ص 340 .
2- وفي كتاب اللهوف لابن طاووس أنه سدد له سهماً قائلاً..
لشهيد
المنتقمون:
ما أن تناهى إلى مسامع أبيه الحسين صوت حبيبه وسلام ريحانته حتى طفق نحو الساحة معتلياً جواده، كأنه في سرعته طائر ينقضّ من علو الفضاء..
ولكن بأي حال وجده أم بأي وضعية رآه..
لقد وجده جسداً ممزقاً مبعثر الأشلاء، متناثر الأعضاء، تتدلى بعض أوصاله من جانبي جواده الذي كساه الدم الزكي حلة حمراء.. هكذا تركوه.
فلم يتركوه إلا بعد أن مثلوا به سريعاً، إذ احتوشوه من كل جهة، وما أسرع ما وضعوا سيوفهم وحرابهم وسكاكينهم ليقطعوه تقطيعاً ويمزقوا جسمه تمزيقاً . ليشفوا غيظ صدورهم، ويرووا حقد قلوبهم مما أدخله عليهم من عذاب دنيوي هذا الشاب العطشان الشجاع الذي شكل جيشاً يقابلهم بمفرده، وعسكراً لوحده، وأُمة بذاته.
كان سلام الله عليه صلباً صابراً في البأساء، شديداً في الله، غليظاً على الأعداء، الأمر الذي يفسر شوق ابن العبدي للانتقام منه، ثم أشواق أولئك المرتزقة الذين آلوا إلا أن يشبعوا غريزة الانتقام، وكان كل منهم أراد أن يتبرك بجسده ويتزلف للشيطان بطعنه وغرز حربته بعضو من أعضائه الشامخة التي أذاقتهم مرّ الحياة، وحنظل المواقف العسكرية.
ولولا مجئ الإمام الحسين (عليه السلام) لأكلوه، لأكلوا كبده وقلبه، وما يدريك؟ ولِم العجب ؟ ألم تلك ((آكلة الأكباد)) هند الأموية كبد عمه حمزة الذي كان يجول في بطحاء الجزيرة.. أجل لولا إسراع الحسين لأتوا على أشلائه بأنيابهم فضلاً عن حرابهم، ولكان أثراً بعد عين.. وتلك سجية الأجلاف..
وصل الإمام إليه، وأخذ يطيل النظر إليه، ثم التحق به شباب هاشم فأخذوا مواقعهم حول الجسد الصريع وهم يقرأون آيات البطولة الرسالية والعظمة على صفحات جسده وعظامه المهشمة..
وهدأ جيش الأعداء بعد ضجيج دام خلال الجولتين وسكن العسكر بعد اضطراب طويل، فتنفسوا الصعداء، وانشغل بعضهم بجر القتلى مع أوزارهم، ودفن الجثث البالية فيما انشغل الجرحى بدمل جراحهم وأنين الشقاء يصدر منهم، بينما انشغل الباقي بتراشق التهم والعيوب وكل منهم يعيّر صاحبه بالهزيمة ويتبرأ كذباً من الهروب.
أشواق أهل المدينة المنورة:
دخل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، يثرب التي نارت به وتنوّرت بوجوده فأضحت تدعى ((المدينة المنورة)) .
وعاش الرسول معهم حتى ألفوه، وما أن رحل عنهم منتقلاً الى الرفيق الأعلى حتى اتخذوا من سبطيه الحسنين عوضاً عن صورته وأخلاقه الخلاقة، فهم ينظرون إلى الحسن والحسين فيتذكرون بهما رسول الله ذلك المنقذ العملاق، سيد المُحررين من شتى أشكال العبوديات.
وبعد أن ولد علي الأكبر وتسلق السنوات، فشب فتى هاشمياً محمدياً وظهرت عليه مجمل خصائص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى راحوا يتشوقون إليه، ليستمدوا من ملامحه وشمائله ومعانيه وجماله ذكرى الرسول وذكرياتهم الماضية مع رسولهم الهادي..
فعلي الأكبر يعكس لهم الصورة الحيوية لسيد البشرية الراحل، فهو صورة طبق الأصل كما تبدو لناظريهم وبرؤية واضحة ليست غامضة، وقد روي أنهم إذا اشتاقوا للنظر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، طفقوا إلى عليّ الأكبر يزورونه ويتزودون من طلعته البهية، بحيث أن هذا الانعكاس الحيوي للصورة النبوية المقدسة أقرها والده الحسين وهو إذا اشتاق لجده تطلع إلى ولده..
على أن عواطف أهل المدينة وأشواقهم لنبيهم وأهل بيته كانت تقابل بالتجاوب طبعاً، فلم يضن عليهم ـ علي الأكبر - بلقاء أو مجالسة في المدينة وأحيائها أو داخل المسجد النبوي الشريف أو في بيته الخاص... إذ روي أن الإمام الحسين (عليه السلام) أفرد له بيتاً مستقلاً خاصاً به، فأخذ يستقبل المحبين معرباً عن خاصية الكرم، ومترجماً عملياً موقفه من الضيافة، فمن الناس من يفد عليه للتحدث إليه والتعلم بين يديه، ومن الناس من يزوره نوالاً لجوده وعطاء يده الكريمة، فضلاً عما يهدفون إليه من التزود من ذكريات الماضي المجيد ويوميات الرسالة والرسول الذي تتجلى معالمه على سليله علي (عليه السلام) ..
كان يؤم داره أناس من جميع الطبقات والمستويات، لاسيما الفقراء.. كان داره عبارة عن منتدىً ثقافي للوفود، ومنتجع للكرم والجود.
أما الشعراء فلم تفتهم الفرصة لدخول بيت كرمهِ من باب جوده وعلو شرفه.. حتى وصفه أحدهم فقال عنه:
لـم تـرَ عيـن نظـرت مثله من محتفٍ يمشي ومن ناعلِ
يغلـي بنـيّ اللحـم حتـى إذا أنضـج لـم يغـل على الآكل
كـان إذا شــبت لـه نـاره أوقـدها بالشـرف القـابـلِ
كيـما يـراها بائـس مرمـل أو فـرد حـي ليـس بالآهلِ
أعني ابن ليلى ذا السدى والندى أعني ابن بنت الحسب الفاضلِ
لا يـؤثر الـدنيا علـى ديـنه ولا يبيـع الحـق بالباطلِ (1)
تلك القطعة الأدبية والمقطوعة الشعرية، تعتبر وثيقة على حقيقة فتح بابه لكل الطبقات والهيئات والفئات.
والذي نستشفه من تلك الأبيات، هو أن الشاعر قد شاهد علياً وكان له معاصراً،
أنه رآه عياناً، بمشيته ومظهره ـ حسبما يوحي البيت الأول.. أما البيت الثاني فيفيد بأنه كان حريصاً على السخاء والبذل، بحيث أنه يعلن عن موقع الجود وذلك بإيقاد النار فوق المكان العالي المرتفع كعادة الكرام المحسنين، تلك النار التي تدلل على البيت والمضيف، وقد كان الغرباء والفقراء المعسرون يتطلعون دوماً إلى الأماكن التي تتصاعد منها ألسنة النيران كيما ترشدهم إلى صاحب الضيافة، وسيد الكرم، حسبما عبر البيت الثالث والرابع.
ثم يمجد السيدة ليلى ذات الشرف والحسب الفاضل، ليختم ببيت هو في غاية الأهمية، إذ يؤكد عقائدية هذهِ الشخصية وصرامتها وحديتها بحيث لا قيمة للحياة ولا فائدة من التعامل بالباطل، بل لا معنى للحياة بحضور الباطل، أنه لا يؤثر الدنيا، كما لا يستعيض عن الحق والحقيقة بالأثمان القليلة الرخيصة لأنه ليس من عشاق الحياة الدنيا، انه صاحب قضية فهو صاحب موقف لا يغيره لأنه رائد من رواد الحق.. ذلك هو البيت الأخير وهو أيضاً بيت القصيد.
كان أهل المدينة يرتادون منزله الرحب الواسع بما فيه وبما يحويه، فالبائس بحاجة ماسة إلى من يطعمه، وإن من ليس له أهل أو لا يملك قوت يومه، بحاجة ملحة إلى تلك النار التي تعلو لتدعو الجائع ولتعلن مدى كرم من أوقدها وأشعلها...
هكذا كان نظير جده في الخَلق والخُلق والمنطق. ولا أكتمكم سراً، لو قلت بحقيقة أن أهل المدينة ينطلقون في أشواقهم لرؤيا النبي بلقاء علي من باب العواطف والذكرى فحسب، لا من باب تجديد عهد
بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تأكيد ولاء لعلي.. بدلالة موقفهم من الثورة الحسينية المتمثل بالإحجام والتهرب وعدم الأسهام، إلاّ من عصم ربك من المؤمنين حقاً (وقليل ما هم).. المؤمنون فقط لا غيرهم.. (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) قرآن كريم.
ذلك هو الذي كانت المدينة عامرة به وبأبيه العظيم، كانت عامرة بوجوده وجوده، بكيانه وكرمه، بسموه وسخائه.. الذي كان موطن حب للمسلمين، والذي عاش وهو محط أشواق الناس لنبيهم.
الصلابة والبأس الشديد
في مسيرة الركب التاريخية:
انطلق الركب الحسيني بمسيرته التاريخية من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة، البلد الأمين، دار السلام والاطمئنان، وبعدما أضحت مكة غير ذات أمان مهتوكة الحرمة، ولأسباب متظافرة اتجهت المسيرة العملاقة نحو الشمال إلى العراق حيث إقليم الكوفة فكربلاء.
وأخذ الركب يلف الصحراء ويطوي البيداء، ويعبر ويصعد الهضاب ويقطع السهول متجاوزاً التلال والمرتفعات . يحث خطى السير لا يلوي على شيء... قد حملت الجمال معدات السفر والعتاد، ومحامل النساء... فيما امتطى الفرسان صهوات جيادهم..
وقد لحقهم مئات من الرجال النفعيين الذين ظنوا باقبال الدنيا على الحسين (عليه السلام)، وقد أدرك الإمام دوافعهم فسلك معهم عدة أساليب لارجاعهم وإبعادهم عن جهاده النقي، وللإبقاء على صفوة الرجال وخلاصة الرساليين الأبطال، ممن لا منفعة دنيوية تحدوهم ولا مصلحة شخصية تدعوهم، إلا إعلاء كلمة الله بإظهار الحق ودمغ الباطل(1).
مرّ الركب بعدة مناطق في الطريق، كمنطقة الصفاح، وزرود والخزيمية. ومنطقة الثعلبية ... الخ.
وهنا في هذه المنطقة بالذات حيث بلغها الركب في المساء، وعليّ الأكبر يسير معهم ليلاً نهاراً، يسير كلما ساروا ويقف كلما وقفوا، ويحث جواده كلما حثوا الجياد.. حتى بلغ منهم النصب وأخذهم التعب، وفي ذلك المساء بتلك المنطقة غفا الإمام الحسين، وأخذه الكرى، فرأى في نومه المؤقت رؤيا أزالت عنه الكرى، وفتح عينيه على أثرها، وأخذ يسترجع ((إنا لله وإنا إليه راجعون)) (2) وهذا عبارة عن تعقيب على مضمون الرؤيا ومعناها.
فانتبه نجله علي الأكبر الذي كان يسير على مقربة منه فالتفت حالماً سمعه، ليستفسر من والده العظيم عما دعاه للإسترجاع، فأجابه الأب القائد:
((رأيت فارساً وقف عليّ، وهو يقول: أنتم تسيرون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة، فعملت أن أنفسنا قد نعيت إلينا)) وفي رواية لا توجد عبارة ((.. إلى الجنّة)).
فبادر ولده علي قائلاً بصرامة المؤمن القوي: ((يا أبة أفلسنا على الحق؟)) قال إمام الحق: ((بلى يابني، والذي إليه مرجع العباد)).
فرد علي بكلمة نابعة من العزة والإباء ((يا أبة إذن لا نبالي بالموت)) وفي الأعيان أنه قال: (( فاننا إذن لا نبالي أن نموت محقين)) فعقب والده الإمام بكلمة التقدير العالية الرفيعة، التي جاءت بصيغة الدعاء، وأي دعاء من أب لولده، أم أي كلمة هذه التي ينطق بها الإمام الحسين شخصياً لولده عليّ الأكبر بالذات.. ((جزاك الله يا بني عني خير ما جزى به والداً عن والده)) (3). وهكذا هي تحية الإجلال لموقف الصلابة الشجاع.. أكرم بهذه الأبوة وتلك البنوة، الممتدين من أصول الأنبياء وخاتم النبوة.
لقد تحدى كل العقبات والمعوقات التي تحول دون تحقيق أهداف الحق، فطالما نحن على حق ينبغي أن لا نهاب الموت، الموت الذي حتى لو أيقنا قربه ودنوه منا، الموت المؤكد في الموقف المعين بالذات، الموت على الإيمان واليقين .. واليقين من أسماء الموت: ((أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وأطعت الله ورسوله حتى أتاك اليقين))..
فلابدّ من نصب الموت أمام الأعين في السلم والحرب، ولابدّ للمؤمن من حمل الكفن إن لم يحمل معه خشبة الصَلب.. فلا يقولون أحد أن منيته وأجله في غيره هذه الحادثة الجهادية أو هذه الحرب، لأن ذلك معناه سابق نية على التهرب والإنسلال وعدم الرغبة في تمام التحرير وكامل الاستقلال..
ان هذه الرواية وحديث علي مع أبيه لابدّ أن نستفيد منه ولنتعرف على حقيقة شخصية علي من خلاله.. ((وفي الحديث من الدلالة على جلالة علي بن الحسين الأكبر، وحسن بصيرته، وشجاعته ورباطة جأشه، وشدة معرفته بالله تعالى، ما لا يخفى)) (4) .
لقد كان حواراً جهادياً عظيماً، يذكرنا بحوار نبي الله إبراهيم مع نجله النبي إسماعيل.. فحينما قص إبراهيم الرؤيا، (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ).. أجابه ابنه إسماعيل بقوله: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) القرآن الكريم.
فثمة تشابه من حيث الغرض وهو الفداء والتضحية غير أن ثمة فوارق.. فجواب إسماعيل كان مفروضاً عليه بحكم طبيعة الرؤيا فهو مطالب بالرد المناسب ومطلوب للتضحية بذاته دون سواه. بينما لم يكن مفروضاً على علي الأكبر أن يجيب وليس الرد مطلوباً منه، ولم يك مطلوباً للتضحية بذاته ولوحده، وكان بمقدوره أن لا يجيب على ما ذكره أبوه من رؤيا.. لكنه أجاب بنبرات الصارم وعزيمة الصابر الصامد الذي لا يلين..
ولا نريد أن نعقد مقارنة بين الحوارين، فلا تفاضل بين النجلين الطاهرين، بحصول الفرق بين الموقفين وطبيعة القضيتين..
وبعد فقد تقدم إسماعيل صابراً، ليقدمه والده قرباناً ويبقى هو - والده - حياً، ثم غير الله سبحانه قضاءه إذ بدا له أن ينزل كبشاً كبديل (فَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) فنجا إسماعيل من مذبحة كادت تنهيه.
بينما تقدم علي الأكبر مع والده وكوكبة الرجال والشبان صفوة الأمة المسلمة، تقدم بأقدام ثابتة وخطوات لا تثنيها أي قوة مضادة إلى حيث مذبحة الذي ذبح عليه وقطع تقطيعاً هو ومن سبقه، بمرأى والده، بل مضى حتى والده قرباناً وضحية، أجل ذلك بحكم اختلاف القضية، ويا لها من قضية عظيمة لا كبش - مهما كان عظيماً - يعوضها أو يعادلها..
أجل سار علي وواصل مع الركب المجيد، سار والحق يحدوه، وأمامه نصبت صخرة الذبح من أجل أقدس قضية حَتَمَت أرقى فداء وتفانٍ وتضحية..
________
1- وقد سبق لنا دراسة هذه الحالة وعمليات التصفية والتمحيص الحسيني لذوي الدوافع الرخيصة والبواعث اللاعقائدية . وذلك في القسم الثاني من كتاب (الدوافع الذاتية لأنصار الحسين).
2- في رواية أنه قال (إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله ربّ العالمين) أعيان الشيعة للسيد الأمين ج 41 ص 171
3- الفتوح لابن أعثم : ج 5 ص 123 ، وبحار الأنوار للمجلسي ج 44 ص 379، 380 وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص 346 والأعيان .. وغيرها بتفاوت ملحوظ في صيغ الروايات المدونة.
4- السيد الأمين في الأعيان .
علي يرابط في كربلاء مع المرابطين:
حتى إذا وصل الركب في مسيرته، ربى الطف، وتلاع شاطئ الفرات، وقف الإمام الحسين ليتعرف على اسم المنطقة وما هي إلا برهة زمنية حتى أعلن بأنها موعده ومستودعه ومنازل الأبطال ومقابر الشهداء.
..ها هنا والله مناخ ركابنا.. وهنا هنا قَتل رجالنا.. حتى قال .. وها هنا تزار قبورنا.. بهذه التربة وعدني جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا خلف.
فنزلها الرجال والشباب، وقد انطلق الصبيان يلعبون ويرتعون، بينما أخذ الرجال يبنون البيوت وينصبون الفساطيط والخيام، فبانت أطناب الخيام وظهرت مواقعها بأهلها المرابطين على الحق .. ورابط علي الأكبر في بطحاء كربلاء، منذ اليوم الثاني حتى العاشر من شهر محرم.
أما الجيش المعادي الذير يرابط على شط الفرات فقد أخذ يتكاثر كل ضحى وكل يوم حتى كملت عدته يوم تاسوعاء، إذا كانت الكتائب تتوافد لترابط قِبالة الجبهة الحسينية.. ولكثرتها تسنى لها تنفيذ أوامر منع الماء الصادرة من ابن زياد، حيث ضربوا على نهر الفرات حصاراً يحول دون بلوغ ضفافه أي ضام عطشان.
وظل علي في انتظار دوره وأداء مهامه، فهو يترقب بدء القتال مع الأعداء، وبدء دوره خصوصاً، إذ كان في رأيه أن يكون هو أول قتيل وشهيد.. لقد وقف إلى جانب ثلة الهاشميين تحت لواء عمه العملاق، العباس بن علي (عليهما السلام). ليطالب بأن يكونوا هم - بنو هاشم - أول من يبرز للميدان.
بيد أن عصبة الأنصار ترى أنها هي الأول دخولاً للميدان وقد تجمعوا تحت لواء المجاهد حبيب بن مظاهر الأسدي وهم يطالبون بعدم سبق الهاشميين للجهاد والقتل.
وتدور بين الطرفين مباراة كلامية.. ويستمر تنافس الجناحين على الظفر بالأولوية لخوض غمار الحرب العادلة.. ولا أحد يرضى بأن يكون ثانياً، كل يؤثر نفسه على الموت قبل غيره، وبطبيعة الحال فان عليا كان أكثر عزماً وأشد رغبة في إحراز تلك الأسبقية والأولوية، فهو من جناح الهاشميين الذي يقول بضرورة تَقَدم بني هاشم لأنهم حَمَلة الرسالة وثقل الحديد لا يحمله إلاّ أهله..
وأخيراً احتكم الجناحان إلى الإمام الحسين (عليه السلام) فحكم الإمام القائد للأنصار بالسبق لدخول الساحة..
وظل الهاشميون في ترقب لدورهم..
وظل علي الأكبر خصوصاً أشد شوقاً لساعته ولحظات سعادته.
السبق للجهاد
المبادرة الفورية:
لقد أدى الأنصار أدوارهم على أحسن ما يرام، فمضوا إلى حيث نعم الله ورضوان ربهم وجنان وعدهم إياها، إنه لا يخلف الميعاد.
ولم يدع علي واحداً يسبقه، بعد اذ انفرد الإمام وأهل بيته، فكانوا البقية الباقية من الشجرة المحمدية، والوحيدون على وجه الأرض، من آل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فطفق بعضهم يودع بعضاً . ومال أحدهم على الآخر يعانقه بحرارة وشوق .. وصف المؤرخون ذلك المشهد الرهيب واتفقوا على هذا المعنى:
((لما قتل أصحاب الحسين (عليه السلام) ولم يبق معه إلا أهل بيته خاصة، وهم ولد علي بن أبي طالب (عليه السلام) وولد جعفر وولد عقيل، اجتمعوا يودع بعضهم بعضاً، وعزموا على الحرب، فتقدم علي بن الحسين (عليه السلام)، وكان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خَلقاً وخُلقاً)).
أما وداع علي لأهله من النساء كأمه واخواته وعماتهِ لاسيما عمته الحوراء زينب (عليها السلام)، فقد حفل بالآلام والأشجان.. فقد آن فراق ذكرى المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا شعرن وأحست كل منهن..
ظهر علي بأنه شديد الحرص على السبق للساحة وعلى أن يكون أول ضحية وقرباناً لله سبحانه وتعالى (1).. وهذه الظاهرة تحتاج إلى وقفة... فلاشك أن المسؤوليات الجسام لا تناط إلا بأهلها، وخليق بهم تحمل عبئها وما يترتب عليها من مضاعفات، لأنهم سدنة الرسالة، وحراس المبادئ ذات الأصالة.. فهم لا يختارون التأخير عن دورهم، الأمر الذي يفسر حالات التنافس بين الهاشميين والأنصار، وعمليات الرهان على الأسبقية، كما أشرنا حيث حسم الإمام ذلك الموقف لرغبة الأنصار المجاهدين على رضى منه..
أما وأن علياً يسبق اخوته من الهاشميين. فذلك ما يفسره نفس المعنى، فنظراً لكونه نجل الإمام القائد المنحدر من صلبه الشامخ، فهو يشعر بخصوصيته، لا لكي يسلم وينعم، بل لكي يبادر ويعمل ويضحي فيكون المثل الأعلى...
وليس هذا من باب المفاضلة والمكابرة، بقدر ما هو من باب الإيثار، فخليق به أن يتقدم على الجميع مؤثراً سلامتهم وعدم نظرهِ لجراحهم أو مواقع مصارعهم..
ولما كانت القضية قضية الإسلام الحسينية، فلا يحسن به أن ينتظر إلى آخر شوط وآخر دور، فهو نجل القائد، ومن باب أولى أن يكون هو المتقدم..
وهكذا يتجلّى علو التربية ورفعة التوجيه وسمو الآداب وجلال التهذيب المتوفر في شخص علي الأكبر... فما كانت تربية أهل البيت تنص على معنى يخالفه عملهم، ليس فيهم قوال غير فعال... وانما جبلوا على ممارسة تطبيقات مقررات الرسالة والدين الحنيف وحتى الآداب والمثل البسيطة والمفاهيم الخلقية العملية..
______
1- وقيل أنه ليس الأول ، بل لقد أدرجه ابن أعثم في الفتوح : ج 5 ، ص 207 فجعله آخر من قتل، وهذا ما لا شهرة فيه..
المجاهد العنيد
الجولة الأولى:
وامتشق حسامه المهند من غمده، ونزل مخترقاً صفوف العدو المتكبر، فراح الأكبر في كبرياء العز يضرب الأجلاف ويجندل الجبناء، ويحصد بهم فيوقع أكبر الخسائر في أوساطهم.. راح يضربهم فوق الأعناق ويضرب منهم كل بنان..
ظهر تأثيره عليهم حينما دخل دائرتهم وأخذ يخوض في وسطهم العسكري، ليمزق جمعهم ويفرق صفوفهم ويشتت شملهم الشريد، فقلب وقوفهم وحالة سكونهم إلى حركة دائمة، وركض وهروب فهزيمة فالرجل من إذا هرب نجا..
وغاب شخص علي الأكبر بينهم غياباً تاماً يتجلى للعيان بما يلعبه فيهم ويؤثر عليهم، فلا يظهر منه غير نشاطه المتمثل بهز العسكر وزعزعة الجيش إذ كان نزاله المسلح بكل طاقاته وقدراته مما أعيى الفرسان المدججين والكماة الناصبين، واستمر في فعالياته البطولية يخرق الصفوف ويتحدى السيوف.. نزل فيهم نزول الأسد الجريح، وخاض بهم خوضاً لم يشهدوا له مثيلاً قط، فما يترك كتيبة إلا وعاد إليها وما يلبث أن يرجع لمن فرقهم بسيفه الصقيل، مضى يتصرف بهم حسبما يريد، وقد عجزوا عن وضع حد له وإيقاف قواه التي تواصل استعراضهم فتكيل لهم الضرب وتنزل بهم الخسائر الجسيمة.. (ولهذا حرصوا على أن ينتقموا منه بعد قتله، وذلك بتمزيق جسده).
حتى إذا ماجهلوه وظنوا أنه علي بن أبي طالب قد خرج إليهم، لأنهم لم يصدقوا أن هذه الحملات الشجاعة لغيره، طفق يكشف لهم عن هويته المقدسة واسمه الشريف - كما قيل عن سبب ارجوزته التالية - . أو أنه أراد توضيح شخصيته ومهمته المنوطة به فبادر معلناً لهم، وهو ما زال ماضياً بعزم لا يلين، ينشدهم أنشودته الخالدة وأرجوزته المجيدة:
أنا علي بن الحسين بن علي نحن ورب البيت أولى بالنبي
تا لله لا يحكم فينا ابن الدعي أضرب بالسيف أحامي عن أبي
ضرب غلام هاشمي علوي(1)
أعلن لهم أنه نجل الحسين حفيد أمير المؤمنين علي..
كما أعلن رفضه لحكم الطلقاء وسياسة ادارة الأدعياء فلا وفاق عليها مهما بلغ الثمن: ((تا الله لا يحكم فينا ابن الدعي)).
أبلغهم أنه سيواصل سيره بسيفه المصلت فوق رؤوسهم ذاباً عن الدين الحنيف ومحامياً لأبيه سيد الأمة..
نبههم أن صرامته وتصلبه، وضرباته الفتاكة لها ما وراءها من رصيد هاشمي، فقوة ضربته وعزيمة ساعده، وتحمله لمشاق المعارك وهول الحروب انما له أصالته بدءاً من هاشم خير الكيان القرشي.. تلك المعاني السامية والإيحاءات الجدية تصك أسماع الأعداء، وهو يكرر انشودته ويكر عليهم كرات جده الكرار فلا يعرف أي معنى للفرار..
((فلم يزل يقاتل حتى ضج أهل الكوفة لكثرة من قتل منهم، حتى روي أنه على عطشه قتل مائة وعشرين رجلاً)) (2).
___________
1- الارشاد للشيخ المفيد، وغيره كالمقتل للخوارزمي وأعيان الشيعة، وفي الفتوح بعض الزيادة عن هذا .. وفي الطبري والكامل نقصان عنه... وهكذا بتفاوت جلي...
2- مقتل الحسين ـ للخوارزمي ح 2 ص 30 وفي الفتوح جاء ((فلم يزل يقاتل حتى ضج أهل الشام من كثرة من قتل منهم، فرجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة)) ج 5 ص 209 بمعنى أن ثمة تسليم بوجود بعض الشاميين .
لم يفت في عضده العطش بل حتى الجراح المعضلة، يسمو يحدق فيهم متعالياً فوق الجواد الناهض .وإذا ما تحاوموه بجمع وكتائب يردهم ويجبرهم على التقهقر والنكوص قسراً..
يرمي الكتائب والفلا غصت بها في مثلها من بأسـه المتوقـد
فيـردها قسـراً على أعقـابها في بأس عرنين العـرينة ملبد
وما همّ بالعجز، وهو شامخ على صهوة جواده بجراحه الدامية المتدفقة دماً عبيطاً، حتى إذا زاد ألم العطش وأخذ منه مأخذاً إلى جانب الجراح والدماء السائلة، رجع وهو يأمل أن ينال شربة من الماء لو وصل إلى المخيمات..
الانتقام:
((عليّ آثام العرب إن مر بي وهو يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه)) (1).
هذا ما قاله أحد المرتزقة في معسكر العدو، وقد التاع وتعذب من شدة حملات علي الأكبر وصولاته حتى بلغ من البغض له والحنق عليه والحقد بحيث صمم على التصدي لهذا المجاهد العطشان، ولا شك أن هذا المرتزق قد ذاق أنواع العذاب من هروب وهزيمة وجبن من سيف علي الأكبر، ولكنه حينما لاحظ تعب عليّ وارهاقه تجرد من جبنه واستجمع جرأته وقال قولته تلك.. انه المدعو (مرة بن منقذ بن النعمان العبدي) الذي تتضح روحه الجاهلية من كلماته ومنطقه ((عليَّ آثام العرب.. والحق أن آثام العرب يستحقها وهي عليه وهو بمستواها، إذ أنه كاره ومعادٍ وقاتل لأشبه الناس بسيد العرب والعجم، وبالرغم من المنطق القرآني الناهي لمثل ذلك المعنى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) نجد أن ذلك الجندي الجاهلي مصمم على تحمل أوزار العرب، مع أنه مستوزر كثيراً من الأوزار، وهكذا أحب أن يحمل على ظهره هو ومن على شاكلته أوزاراً ثقيلة لا طاقة لهم ببعضها.. (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) قرآن كريم.
ولولا العار عليه من قبل رفاقه لصمم ولأقسم باللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى، لكن صيغة تصميمه تلك أقل كشفاً لمضمونه الجاهلي كما يتوهم، وعلى كل حال فإن الأهداف والدوافع الدفينة قد انكشفت، وتكشفت عن الحرب الجارية هذه حقائق لم تخف أو تنطمس.
الحرب قد بانت لها حقائق وأظهرت من بعدها مصادق
ولكي لا نهمل النص السابق علينا أن نلاحظ ما فيه ونرى ما يمكن أن نستوحيه . قال: ((... إن مر بيّ))، كما قال : ((.. وهو يفعل مثل ما كان يفعل)).
يبدو جلياً أن علياً كان لا يترك لهم جمعاً إلا ومر به ولا كتيبة إلا وهاجمها، وكأنه كان يستعرضهم بحملاته استعراضاً عسكرياً مرعباً، بحيث أنه ما أن يترك كتيبة إلى غيرها حتى يعود إليها وإلى غيرها، وهكذا دواليك بنشاط منقطع النظير بحيث أنهم يتوقعون معاودته وكرته عليهم ثانية لهذا توقع ذلك الجندي فقال ((.. إن مر بي)).
ويبدو أنه كان يفعل بهم فعلاً لم يشهدوه طوال حياتهم العسكرية من شاب مسلح بمفرده، فكان استعراضه للجيش رهيباً، ان مرة العبدي لاحظ حرص علي الأكبر على تلقين جموعهم دروساً قاسية وتعليم جحافلهم حقائق بطولية رسالية لاتنسى لاحظ حرصه على عدم إهمال أي كتيبة دون أن يطعمها بالقتلى والجرحي ويختم لها بالهزيمة المنكرة فحقد حقداً قوياً . ((عليَّ آثام العرب، إن مرّ بيّ وهو يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه)).
فانتظر دور الكرة العلوية على كتيبته الأموية، وقد نزع منه لباس الهروب والهزيمة، وكأنه نسي أنه جبان جلف جافي.. فراح يتربص ويلتمس الفرص، ليطعنه ولو عن بُعد منه، وبينما كان الشجاع العطشان يستعرضهم رغم ضعف بدنه ذي الجراح المثخنة المكثفة، ويزحف على جموعهم بالتتابع، كأنما هو زحف منتظم، وبينما كان يشق طريقه مقاتلاً بقواه الباقية، دنا الجندي المرتزق فتأهب مستجمعاً جرأته على الله ورسوله، وجسارته على الحقائق مسدداً رمحه الطويل في ظهر علي(2) (سلام الله عليه) فغرز الرمح - أو السهم - فيه، فانحنى علي على جواده، ثم ثنى له العدو بضربة على رأسه الشريف، ففجه، حينها أطلق علي الأكبر صوته بالسلام علي أبيه:
((يا أبتاه عليك مني السلام. هذا جدي يقرئك السلام ويقول لك عجل القدوم إلينا)).
ثمّ شهق شهقة فاضت أثرها روحه الزكية..
لكنهم لم يتركوه، فثمة دور ومهمة لهم. ترى ماذا فعلوا به وبجسده الذي أذاقهم مرّ طعم المواقف المسلحة؟؟؟
________
1- الطبري ح 4، ص 340 .
2- وفي كتاب اللهوف لابن طاووس أنه سدد له سهماً قائلاً..
لشهيد
المنتقمون:
ما أن تناهى إلى مسامع أبيه الحسين صوت حبيبه وسلام ريحانته حتى طفق نحو الساحة معتلياً جواده، كأنه في سرعته طائر ينقضّ من علو الفضاء..
ولكن بأي حال وجده أم بأي وضعية رآه..
لقد وجده جسداً ممزقاً مبعثر الأشلاء، متناثر الأعضاء، تتدلى بعض أوصاله من جانبي جواده الذي كساه الدم الزكي حلة حمراء.. هكذا تركوه.
فلم يتركوه إلا بعد أن مثلوا به سريعاً، إذ احتوشوه من كل جهة، وما أسرع ما وضعوا سيوفهم وحرابهم وسكاكينهم ليقطعوه تقطيعاً ويمزقوا جسمه تمزيقاً . ليشفوا غيظ صدورهم، ويرووا حقد قلوبهم مما أدخله عليهم من عذاب دنيوي هذا الشاب العطشان الشجاع الذي شكل جيشاً يقابلهم بمفرده، وعسكراً لوحده، وأُمة بذاته.
كان سلام الله عليه صلباً صابراً في البأساء، شديداً في الله، غليظاً على الأعداء، الأمر الذي يفسر شوق ابن العبدي للانتقام منه، ثم أشواق أولئك المرتزقة الذين آلوا إلا أن يشبعوا غريزة الانتقام، وكان كل منهم أراد أن يتبرك بجسده ويتزلف للشيطان بطعنه وغرز حربته بعضو من أعضائه الشامخة التي أذاقتهم مرّ الحياة، وحنظل المواقف العسكرية.
ولولا مجئ الإمام الحسين (عليه السلام) لأكلوه، لأكلوا كبده وقلبه، وما يدريك؟ ولِم العجب ؟ ألم تلك ((آكلة الأكباد)) هند الأموية كبد عمه حمزة الذي كان يجول في بطحاء الجزيرة.. أجل لولا إسراع الحسين لأتوا على أشلائه بأنيابهم فضلاً عن حرابهم، ولكان أثراً بعد عين.. وتلك سجية الأجلاف..
وصل الإمام إليه، وأخذ يطيل النظر إليه، ثم التحق به شباب هاشم فأخذوا مواقعهم حول الجسد الصريع وهم يقرأون آيات البطولة الرسالية والعظمة على صفحات جسده وعظامه المهشمة..
وهدأ جيش الأعداء بعد ضجيج دام خلال الجولتين وسكن العسكر بعد اضطراب طويل، فتنفسوا الصعداء، وانشغل بعضهم بجر القتلى مع أوزارهم، ودفن الجثث البالية فيما انشغل الجرحى بدمل جراحهم وأنين الشقاء يصدر منهم، بينما انشغل الباقي بتراشق التهم والعيوب وكل منهم يعيّر صاحبه بالهزيمة ويتبرأ كذباً من الهروب.